-A +A
شتيوي الغيثي
تظهر الكثير من المقاطع التي يتبادلها أبناء السنة استهزاء برجال الدين الشيعة، كذلك الحال تخرج مقاطع لتصرفات شباب شيعة ينم عن موقف مضاد للسنة. كلا الطرفين يحمل تصورات عن الطرف الآخر تحمل عدائية كبيرة، وحينما تعتبر أن مثل هذه المقاطع لا تمثل إلا أصحابها ولا تمثل المذهب نفسه، سواء من السنة والشيعة، يصعد الهجوم لمستويات أعلى اتهاما بالخيانة الوطنية على اعتبار ولاء بعض الشيعة لإيران وحزب الله، وولاء بعض السنة لتنظيم القاعدة وداعش والنصرة. مثقفو الشيعة يعانون من متطرفيهم، ومثقفو السنة يعانون كذلك من متطرفيهم. وكلهم واقع بنظر هؤلاء المتطرفين تحت فكرة المروق من الدين أو الخيانة الوطنية.
سبق أن كتبت في أحد المقالات قبل سنتين أن ما يحصل هو نوع من «التمترس حول الذات (وكلمة التمترس أعنيها جيدا لما تحمله من إيحاءات حربية) جعلت كل مشروع يحاول أن يجفف منابع الاختلاف يجهض تماما من خلال مشكلة التمترس هذه؛ لأنها نوع من الرؤية الضدية تجاه الآخر. رؤية لا ترى في الآخر إلا الشر الكامن متى ما وجد الفرصة للانقضاض علينا فلن يوفرها، ولذلك فإن الإمعان في الضدية هو رؤية (شرانية) تجاه الآخر. الآخر الطائفي عدو في جلباب صديق، هكذا يتم التفكير من خلال النظرة التي ترى في كل علاقة (آخرية) حربا طويلة المدى نحن في خندق من خنادقها أو على ثغر من ثغورها. التمترس هنا عبارة عن مصدات ثقافية ودينية واجتماعية وسياسية تكون دون الآخر الطائفي تصنع بعناية فائقة بطريقة جدلية، وبنفس طويل جدا، مع الكثير من محاولات الإثبات الديني والثقافي، وربما مع نماذج من تصرفات المتطرفين من كل طائفة، حتى يصعب فيما بعد تفكيك أي مفهوم ينبني على رؤية طائفية تجاه الطائفة الأخرى. أنا هنا لا أستبعد أي طائفة من الطوائف عن هذا السلوك، بل إن جميع الطوائف، بلا استثناء، تصنع هذه الرؤية لتقف دون عمليات التبادل الثقافي بين كافة الطوائف التي يمكن أن يتحقق من ورائها ثراء فكري وثقافي للطوائف الأخرى فيما لو استطاعت التعايش فيما بينها».

لم يكن التعايش الطائفي في العالم العربي محض خيال. كان حقيقة واقعية مشاهدة بشكل يومي خلال سنوات طويلة قبل أن تنحرف الأمور لأسباب سياسية. الخليج بشكل عام، وبعض مناطق الحجاز كان التعايش الطائفي كبيرا، بل وحتى العراق الذي نشهد فيه الكثير من الدماء بين الطرفين. كذلك الحال قبل ثلاث سنوات كان التعايش الطائفي في سورية كبيرا، ومن العجب جدا كيف تحول هذا التعايش إلى دموية لم يشهد لها التاريخ الحاضر مثيلا إلا في العراق، والسبب كثرة التداخلات السياسية من عدد من الأطراف السنية والشيعية على حد سواء في تأجيج الصراع الطائفي.
في البلاد العربية ما إن تفكر فئة من الفئات أن تطالب بحقوقها حتى يتم اتهامها بالخيانة الوطنية ومن ثم بالطائفية.. وربما تتحول هذه المطالبة إلى نوع من التصادم الثقافي في حال لم يتم تفهم رغبة الطائفة في الوجود والتعايش، أو من جهة أخرى، حينما يتم التفكير من خلال الطائفة ذاتها برؤية طائفية، بحيث تتحول المطالبات إلى هجوم ضدي تجاه الطوائف التي لم تمنحها جزءا من حقوقها بسبب رؤية طائفية قاصرة. كما أن الهيمنة الثقافية لطائفة يمكن له أن يحول الحق إلى تفضل يقوم فيه ممثلو الطائفة تجاه الطوائف الأخرى، وهذا إغراق في الطائفية إلى الحد الذي ينفي معه مفهوم المواطنة من أساسه.
المنطقة تشتعل دما ونارا، وكل الحلول التي يمكن أن تقال هي محض أمل من قبل البعض. الأفق السياسي الطائفي مسدود تماما حتى الآن. بعض رجال الدين من الأطراف السنية والشيعية يشاركون في إشعال المعركة أكثر برؤاهم المتطرفة. كل المساعي السياسية في حل الأزمة عائدة إلى الرغبة في مكتسبات سياسية يحاول رجال السياسة أن ينتصروا بها على الطرف الآخر. مشاريع التعايش التي طرحت في سنوات الهدوء السياسي ذهبت هباء، فلم تؤثر على البنى الفكرية العميقة، بل كانت أقرب إلى استعراض سياسي وديني وثقافي لا أكثر.